خلق الله كلّ الأشياء بنظام وهيكليّة معيّنة. فالشّمس مثلاً دائماً تشرق من الشّرق. وشجرة التّين لا بدّ أن تثمر تيناً. والإنسان لا يمكن أن يبقى طفلاً صغيراً، فلا بدّ له أن يكبر ويشيخ ثمّ يموت. وبالحديث عن الإنسان
فمن البديهي والطّبيعي أن يدفن الأبناء والديهم. فأنا مثلاً دفنت أبي، وكذلك أبي دفن والده.
لكن هل من الطّبيعي أن تدفن الأمّ ابنها أو ابنتها؟ لماذا يموت الصّغير قبل الكبير؟ أليس هذا عكس الطّبيعة والبديهيّات. ربّما تقول لي لكلّ قاعدة شواذ وفي حالة دفن الأمّ لابنها أو لابنتها فهذه حالة شاذّة. وأنا أتّفق معك تماماً. لكن تصوّر معي حجم الألم والمعاناة للأهل الذين يدفنون أولادهم. عقلي يعجز حتّى عن التّفكير بمثل هكذا حالة.
عمتي = ابنتها
منذ 24 سنة دفنت عمتي ابنها الشّاب في دمشق إثر حادث سير مروّع. وأستطيع حتّى الآن أن أرى على وجهها الألم والوجع رغم مرور ربع قرن تقريباً على الحادثة. واليوم وأنا أكتب هذه الكلمات تدفن ابنة عمتي ابنتها في دمشق أيضاً والتي راحت ضحيّة قذيفة هاون. فقد تساوت ابنة عمتي مع عمتي بالأمومة عندما أنجبت أولادها. لكنّها اليوم تتساوى معها ثانية بفقدانها لابنتها، فكلتيهما دفنتا ولديهما. اليوم تستطيع أن تقول عمتي لابنتها هذا الكلام: "هل تشعرين بالنّار تحرقك؟ لقد حرقتني قبلك، قبل 24 سنة، ولا تزال تحرقني حتّى اليوم". لكن عمتي لا تزال تتقدّم على ابنتها فهي تدفن حفيدتها اليوم.
كلّ شيء غير طبيعي
أعود لسؤالي الأوّل هل من الطّبيعي أن يحدث ذلك؟ بالطّبع ليس من الطّبيعي، لكنّها حالة شاذّة. وبما أنّها حالة شاذّة فكلّ شيء يتعلّق بها من المتوقّع أن يكون شاذّاً عن الطّبيعة. فالعواطف ستكون غير طبيعيّة، والمواقف أيضاً، وكذلك الأسئلة. فمن حقّ عمتي وابنتها أن تسألا الله: لماذا ابني وابنتي؟ لماذا بهذه الطّريقة؟ من المسؤول؟ أين العدل؟ متى نفهم؟ كيف نفهم ما حدث على ضوء محبّتك؟ ... إلخ.
شيخ الصّابرين
تذكرّت شخصيّة في الكتاب المقدّس حدث معها الشّيء نفسه، وهي شخصيّة أيّوب المعروف بصبره على الصّعوبات. فكذلك مات جميع أبنائه وخسر كلّ ممتلكاته وأخيراً ضرب المرض جسده. وبعد سلسلة من الأسئلة الطّويلة والصّعبة والعميقة خرج بهذا المبدأ الرّائع: "هُوَذَا يَقْتُلُنِي. لاَ أَنْتَظِرُ شَيْئًا. فَقَطْ أُزَكِّي طَرِيقِي قُدَّامَهُ". (أيوب 13: 15). "فَقَطْ أُزَكِّي طَرِيقِي قُدَّامَهُ" تعنّي أنّي سأثابر في طاعة الله والعيش بحسب وصاياه مهما حصل. ليس استسلام الخنوع والخوف بل استسلام الثّقة والتّعبير عن الإيمان بالرّبّ صاحب السّلطان الأعلى فوق الكلّ وعلى الكلّ. فالله يرى ما لا أستطيع أن أراه، والله يعرف ما لا أستطيع أن أعرفه، لذلك أسلّم له كلّ شيء.
إذا كان لديك أي استفسار أو سؤال يمكنك التّواصل معنا الآن (من هنا)