هاهي السِّنين تحفر آثارها العميقة على وجنتي هذه العجوز التي تقف أمام إحدى واجهات المحلّات، والتي تعكس صورة
وجهها في ضوء النّهار السّاطع. مضَتْ دقيقتان وكأنّهما سنين تمرّ عليها، وملامح الحزن ترتسم على وجهها. لم أستطع إلّا أن أتقدّم نحوها وأختلِق العُذر لأقول لها والابتسامة على وجهي: هل تحتاجين للمساعدة؟
أجابتني بابتسامة دافئة وصوت عذب: كلّا يا ابنتي، شكراً لحُسن خُلُقك.
كرّرت سؤالي وكأنّي لم أسمع منها الرّفض: هل أستطيع أن أُقدِّم لك أيّة خدمة. هل أُساعدك على المشي، أو تريدينني أن أُوقف لك سيّارة أُجرة.
فجأة تحوّلت ابتسامتها لنظرة ذهول وأجابتني وعينيها مغرورقتَين بالدّموع: لا يا ابنتي أشكرك جدّاً فأنا لا أحتاج المساعدة ولكن أحتاج للرِّفقة.
لم أفهم للوهلة الأولى ما قصدَتْه بكلماتها البسيطة والصّريحة، وبعد دقيقة من الصّمت أجبتُها: إنّه لسرور لي أن أُرافقك وأن أُقدّم لك المشروب في أي ّمكان تختارينه، فأنا لا عمل لديّ الآن وأشعر بالملل وأُحبّ أن أقضي بعض الوقت معك. أنا مريم.
مددتُ يدي لأصافحها وتفاجأتُ بسَيل من الدّموع وبانقضاضها عليّ لتحضنني وتقول: عاشت الأسامي يا ابنتي إنّ لك اسمي نفسه، عاشت الأسامي.
اتّكأتْ على ذراعي وكأنّها تلتقط أنفاسها بعد مجهود كبير وقالت لي: أنت جميلة الوجه وهذا يعكس الجمال الدّاخلي وصَفو قلبك.
شكرتها وأنا أبتسم. ثمّ أكملتْ بصوت رقيق وضعيف: تذكِّرينني بأيّام صِباي عندما كنت بالعشرينات والدّم النّقي يلاطف وجنتيّ بحُمرته ليل نهار. كنتُ مثلك يا ابنتي طيّبة القلب وأضحك للجميع، وأُساعد من يحتاج للمساعدة. كنتُ فراشة حلوة تطير هنا وهناك، تداعب الأزهار وتقف هنا وهناك، كنتُ ...
أجبتُها بكلّ بُرود: وما زلتِ يا سيّدة مريم. وكأنّني أُحاول أن أتكلّم فقط، تكلّمتُ دون إحساس بهذه العجوز التي ولّت أيّامها ولياليها. تكلّمت دون إحساس منّي بأنّني في ريعان شبابي وهي تودّع الحياة.
جاءت كلماتها لي كالصّاعقة: كلّا يا ابنتي فأنا قد انتهيت. أُنظري لوجهي الهَرِم وقلبي التّعِب، أُنظري لي فالشّيخوخة تأكلني. ولكن هل تصدّقين بأنّني في العقد السّابع من العمر؟؟.
نظرتُ في عينيها لأتلامس مع الحزن الدّاخلي اللاتي تعكسانه وقلتُ: ولكنّك يا أمّي عشتِ حياة طويلة، الحلو منها والمُرّ. مررتِ بسنين وأيّام من كلّ شكل ولون، هذا كلّه امتياز لكِ في الحياة.
مشينا قليلاً وجلسنا في إحدى المحطّات على مقعد مخصّص لانتظار القطار (الترام). تبادلنا أطراف الحديث وكان مُلهماً لي ولحياتي فيما بعد.
أكملتْ السيّدة مريم حديثها وقالت لي: لقد كنتُ جميلة ورقيقة إلى أن اصطادني زوجي بنظراته الثّاقبة. أحببتُه بسبب رجوليّته الواضحة، وقضيتُ معه أجمل لحظات حياتي .... وللأسف أسوأها. كنتُ أحبّه ولكنّه كان قليل الحِيلة في الحياة. كنتُ أعيش عند أهله في بداية زواجي، ثمّ انتقلتُ لشقّة صغيرة لأعيش مع طفليّ ومعه، وللأسف فإنّ الفراشة الطّائرة الجميلة أصبحت مكسورة الجناح تعتريها الشّكوك من الحياة ومن آلامها. أصبحتُ كالإنسان الميت أهتمّ بشؤون الأطفال وشؤونه ونسيتُ نفسي، كنتُ أراه يركض لشقّة والدته معظم الليالي ليجلس في كَنَفها ويُسلّي وحدتها، تاركاً إيّاي مع وحدتي وألمي. كتمتُ الوجع داخل قلبي وحاولت الاستمرار بالحياة، ولكنّني كذبتُ في كلّ مرّة حاولتُ فيها أن أُبيّن أنّني حَسَنة وفَرِحة.
كانت المرارة تجتاحني من الدّاخل. وهكذا مضت الأيّام، وعندما كنتُ أتواجد مع والدة زوجي وإخوته كنت أتلوّى من المرارة والكُره الدّاخلي، كنتُ أتمنّى لها الموت. لم تكن مشاعري هذه من طرف واحد، بل كانوا هم أيضاً يُكِنّون لي سوء المشاعر والكره.
لم أحاول يوماً أن أستعين بوالدتي لتنصحني، ولم أعرف أنّني بحاجة للمشورة من أحد. وللأسف في إحدى الليالي دخل زوجي وهو يترنّح من الشُّرب عند منزل والدته، دخل وهو يصرخ. حاولتُ أن أُهدّئه لكن دون جدوى، وقام برَميي كقطعة ورق بلا قيمة ودخل ورَمى جسده الثّقيل على السّرير ولم يستيقظ من حينها.
أصبحتُ الأرملة المفجوعة منذ تلك اللحظة. وفي الحقيقة لم يكن ترمُّلي ما أساء لي، بل معاملة زوجي وقسوته عليّ هي ما جعلت المرارة تمدّ جذورها في قلبي.
لم أغفر له ولم أغفر لعائلته سوء معاملتهم لي، وأكملتُ مسيرة حياتي بالكفاح والجهد. وكان ما يكدِّر حياتي هو السّواد الذي يغلِّف قلبي من الدّاخل. كلّ يوم مرّ عليّ كان أشبه بسنة كاملة، فقد حفرت الأيّام مجراها على وجهي ويدي أكثر ممّا يحفر النّهر مجراه في هذه الأرض. كنتُ حزينة جدّاً ولم أستمتع بأيّة لحظة من لحظات حياتي. مرّت السِّنين وكأنّها آلاف، وهرمتُ كالشّجرة الملقاة في الصّحراء دون ماء ودون عناية. بكيتُ وبكيتُ ولم أَجِد سوى الله ألجأ إليه في أحلك الأيّام وأصعبها.
كنت أعرف الصّلاة الرّبّانيّة وأقف عند جملة: "إغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا"، فلا أقولها. كنتُ أعرف أنّ سرّ الصّلاة هذه هو الغفران، ولكن كيف؟ لا أستطيع؟ فالمرارة والحزن يأسران قلبي الضّعيف.
توقّفتْ السّيّدة مريم عن الكلام وهي تلتقط أنفاسها وتمسح الدّموع من عينيها. ثمّ نظرتْ نحوي وقالت: أعتذر يا ابنتي لقد جعلتك تكتأبين بحكايتي هذه.
أجبتُ: كلّا أبداً أنا أستمع بقلبي وبأذنيّ، تفضّلي أكملي.
تابعت قصّتها وقالت: كَبُر ولديّ وتركاني وذهبا للعمل خارج البلاد، وبقيتُ وحيدة أمشي في الشّوارع نهاراً وأجلس على سريري ليلاً. إلى أن قابلتُ في إحدى الليالي وليست ببعيدة سيّدة تمتاز بالجمال في العقد الرّابع من عمرها، اقتربتْ إليّ وقالت لي دون سابق إنذار: "الله يحبّك ويرى مذلّتك، لكنّه يريدك أن تُطلقي الغفران لمن أساء إليك حتّى تأتي نعمة الله على حياتك ويُنسيك كلّ تعبك". عندما سمعتُ للسيّدة بدأتُ أبكي وأقول لها كيف؟؟ كيف بعد كلّ هذه السّنين والعقود؟؟ كيف وأنا لم أَعُد أنا؟؟ كيف؟؟.
ابتدأتُ الصّلاة مع تلك السيّدة وأنا أُطلِق بصُراخ وبكاء كلمات بسيطة: ياربّ أنا أغفر لزوجي المرحوم وأغفر لوالدته وإخوانه، أغفر لهم قسوتهم وظلمهم لي، أغفر لهم كرههم وسوء معاملتهم لي، أغفر لهم كلامهم وتصرّفاتهم معي ... أرجوك ياربّ إغفر لي، إغفر لي. أتصدّقين يا ابنتي أنّي أحسستُ بأنّي رجعتُ عشرين عاماً للوراء، وقلبي فَرِحَ لأول مرّة من زمن بعيد. ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول العَيش بفرح لِما تبقّى لي من عمر.
انتهتْ السيّدة من كلامها وجاء القطار. وقفتْ وودّعتْني وتركتْ لي جملة واحدة: أنت جميلة لأنّ قلبك جميل، ومضتْ.
تركتْ هذه السيّدة قصّتها لتكون دليل لي في حياتي منذ أن قابلتها، فتعلّمت أنّ الحقد يحفر لوعته في النّفس أكثر من السّنين القاسية. تعلّمت أنّ الأيّام المريرة تمرّ كأنّها عقود. تعلّمت أنّ الحياة دون غفران هي مرارة الجحيم، وأنّ الغفران والنّعمة هما جمال القلب الحقيقي.
كنتُ أعيش كلّ يوم وأنا أنظر إلى المرآة الدّاخليّة، وأسأل نفسي: هل أنا غاضبة من أحد؟ هل أشعر بالمرارة تجاه أحد؟ هل الحقد يملأ حنايا قلبي؟
في كلّ يوم أقف لأتجمّل من الدّاخل، كما أتجمّل من الخارج وأنظِّف وجهي وأُسرّح شعري. أقف لأُصلّي وأواجِه نفسي .... لو احتجتُ إلى الكلام مع من أساء لي ومواجهته، كنت أقوم بذلك بأسرع وقت. وإن احتجتُ للغفران لأحد، كنتُ أقوم به. وإن احتجتُ أن أهدأ، كنتُ أستريح وأحاول السُّكون.
إنّ تلك السيّدة التي غيّرت حياتي، جعلتني أكتب ورقة صغيرة وأضعها على المرآة لأقرأها كلّ صباح ومساء:
"الجمال هو الجمال من الدّاخل ... جمال القلب الصّافي والنّقي".
عزيزتي قد تكوني غير جميلة أو قد يراودك الشّعور بالنّقص أو الغيرة من الجميلات، لهذا أدعوكِ عزيزتي أن نقرأ سويّاً هذه المشكلة: "أغار من الجميلات".