يتميّز الغربيّون بوضعهم للحدود في علاقاتهم مع الآخَرين، حدود لا يمكن لهم أو لغيرهم التّعدّي عليها. تَراهم خدومين لَبِقين يهتمّون بك،
يُراعون آداب الحديث واللباقة في التّعامُل معك، لكنهم لا يتدخّلون فيما لا يعنيهم ولا يثرثرون كثيراً، بل ويرفضون ويعتبرون بأنّه من غير اللياقة والكياسة التّطفّل على حياة الآخَرين، حالهم كحال المثل العربي الذي مع الأسف القليل منّا يهتمّ بتطبيقه، والذي يقول: "من راقب الناس مات همّاً". إنَّ تحقيق علاقات حميمة لا يعني التّدخُّل في حياة المحيطين بنا، مهما تكُن نوع القرابة التي تصلنا بهم، حتّى وإن كانت من الدّرجة الأولى "كالأولاد والأزواج والأخوة". من حقّ قريبي العيش بحريّة كاملة وامتلاك القدرة على أخذ قراراته، مع العلم بأنّه لا يمنع في بعض الأحيان تقديم النّصيحة له إن شعرتُ بأنَّه يحتاج منّي إلى ذلك، مع أخذي بعين الاعتبار احترام فرديّته. وإنْ رفَضَ نصيحتي عليَّ الانسحاب بهدوء ورويّة، دون التّحسُّس منه أو رفضه وهجره. لأنَّه مهما كانت قرارات المحيطين بي خاطئة، فلا يحقّ لي التّعدّي على حقوقهم في فرض رأيي عليهم، لأنّي إن فعلت هذا أُفقِدهم فرصة اكتشاف وتعلُّم ما هو الصّواب والخطأ. إنَّ ترك مساحة من الحريّة لغَيري يُعَدُّ من أقل حقوق الغَير عليّ. وهذا ينطبق عليَّ أنا نفسي، إذ من حقّي العيش حرّاً أختار ما أريده وما لا أريده، لكن على أن تقف حريّتي إن تعدَّتْ على حريّة الآخَرين.
في كتاب "الحدود" Boundaries" يقول هنري كلود وجون تاونسند: "تساعدنا الحدود في العلاقات،على معرفة ما نحن عليه وما لسنا عليه، متى نبدأ ومتى ننتهي ليبدأ الآخر، ما نحن مسؤولون عنه وما يقع في دائرة مسؤوليّة غيرنا، عندها فقط، نحصل على الحريّة". هل يمكنك تصوّر دولة قادرة على العيش بسلام دون حدود تفصلها عن الدّولة المجاورة لها؟ بالطّبع لا، تخيّل ما الذي يمكن أن يحدث لو قرّر حاكم دولة ما إزالة حدود دولته مع الدّولة المجاورة له، بحجّة صداقته الوثيقة مع حاكمها؟ أ لن يعطي هذا القرار الفرصة للمجرمين المحكوم عليهم، بالهرب إلى الدّولة الأُخرى؟ وقبل أن يمرّ وقت طويل، أ لَن تُعلِن هاتان الدّولتان الحرب على بعضهما البعض، أو تُقرِّران قطع علاقاتهما معاً، وكلّ هذا بسبب خطوة غير حكيمة بدأت بنوايا طيّبة. وعلى الجانب الآخر، هل يمكن لدولة ما، العيش بحدود مغلقة مع الدّول المجاورة لها، فلا تسمح بمرور طائراتها أو بواخرها وتغلق طُرُقها البريّة فلا يدخلها غريب أو يخرج منها أيّ من أبنائها؟ هل يمكن لأيّ دولة العيش بلا علاقات دبلوماسيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة مع جيرانها؟، في الحقيقة، لا يمكن لأيّ دولة العيش بلا علاقات مع الدّول المجاورة مهما كانت قويّة عسكريّاً أو سياسيّاً أو اقتصاديّاً، لأنَّه لا توجد دولة فيها كلّ احتياجات سكّانها، أي تُنتِج كلّ المزروعات وتصنع كلّ المنتجات وبها كلّ أنواع المواد الخام. وإنْ قرّرتْ دولة ما إغلاق حدودها خوفاً من أن تبتلعها الدّول المجاورة، فسوف لا يمضي وقت طويل قبل أن تنهار في كلّ نواحيها، وتصبح عُرضَةً بالفعل للابتلاع من الدّول المجاورة لها دون أدنى مقاومة، وهكذا تتحوّل الخطوة التي كانت تهدف إلى الحماية، لتصبح سبباً للانهيار.
الحدود تُعبِّر عن حقيقتَين محوريَّتَين في وجودنا الإنساني، الأولى تقول بأنّنا أشخاص مُتفرِّدون كلّ منّا يتميّز عن الآخر ولا وجود لإنسان نسخة من غيره، ولا يعقل افتراض وجود شخصين يفكّران أو يشعران تماماً بالشّعور ذاته في كلّ الأحوال والظّروف، فأنت أنت، وأنا أنا. أمّا الثّانية فتؤكد بأنّنا نحتاج بعضنا بعضاً ولا يمكننا العيش منعزلين، رغم أنّنا مختلفين ومنفصلين. هاتان الحقيقتان لا يجب أن نقبلهما فقط، لا بل وأن نفرح بهما أيضاً. فهما مصدر ثراء علاقاتنا، وإدراكهما يقود إلى التّنوُّع في فهمنا وشكل استقبالنا وتقبُّلنا للأمور وللآخرين، كما يؤدّي إلى خَلق تحدّيات شخصيّة تساعدنا على التّغيُّر والنّموّ. وهكذا لكي نحقِّق علاقات صحيحة، علينا أن نَعي وندرك ونعترف بالتفرُّد والاختلاف وأن نحتفل بهما، وألاّ نسعى لإيجاد تطابق بيننا بدعوى حبّنا الشّديد لبعضنا، بل نسعى لتحقيق توافق وتكامل وتعاون، نقترب من بعضنا مع احترام حدودنا. يظهر عدم وجود حدود صحيّة في العلاقات في إحدى الصّورتين التّاليتين وغالباً فيهما معاً: - خَلْق علاقات فيها تداخل كبير لا إمكانيّة للانفصال فيها. - الابتعاد عن النّاس ووضع حدود عالية لا مجال فيها للتّواصل أو القبول. نحن بحاجة إلى بعضنا البعض عاطفيّاً، لأنّنا بدون دفء المشاعر تُبلِّدنا البرودة والوحدة وتصبح حياتنا بلا معنى. كذلك نحتاج إلى أن نكون بمفردنا تماماً، بعيداً قليلاً عن كلّ النّاس حتّى وإن كان أقربهم وأحبّهم إلينا. تخيّل لو طالت المعانقة عن الوقت المناسب، فماذا سيحدث؟ تخيّل لو قرّر عامود في أحد المباني الاقتراب من زميله للاستئناس به، ماذا يمكن أن يحدث؟ تخيّل لو لم يكن القوس منفصلاً عن السَّهم المتحرك، فهل سينطلق السَّهم؟
عندما يتطفّل شخص ما ويتدخّل في شؤون الغَير دون إذنٍ غير مُراعٍ للحدود معه، قد تكون النّتيجة المباشرة لذلك، أن يَلقى الرّفض والعنف منه، الأمر الذي سيتسبّب له بالكثير من الألم. لكن في أحيان أُخرى يتمّ هذا التّداخل بصورة خبيثة، دون أن يدري الطّرفان. هذا التّداخل المَرَضي يُحوّل علاقتهما إلى علاقة اعتماديّة، يُعاني بَعدها الطّرفَين من جوع للحُبّ. وما الذي يحدث نتيجةً لهذا الجوع؟ يقتربان من بعضهما أكثر فأكثر محاولَين الحصول على الدّفء، فيزداد تداخلهما دون أن يقصدا ذلك، وبعد فترة، يشعر أحدهما - غالباً الشّخص الأقلّ جوعاً للحُبّ - بهذا التّداخل ويتضايق منه، فيقوم بتخفيض درجة العلاقة، أو بسبب الضّيق الشّديد، يُقرّر إنهاءها فيشعر الطّرف الآخر بالغدر. يشبه هذا الأمر في كثير من الأحيان، اثنان ينامان جنباً إلى جنب في ليلة شتويّة قارصة البرودة ومعهما غطاء واحد، فيقتربان من بعضهما ليستدفئا ولكن مع مرور الوقت يشعر أحدهما بأنَّه استدفأ بما فيه الكفاية، ولم يعُد محتاجاً إلى كلّ هذا الاقتراب فيبتعد، أو قد يشعر بالاختناق، فيتّخذ ردّ فعلٍ عنيف خاصّة لو كان الآخر لا يزال متشبّثاً به رافضاً الابتعاد عنه.
لذا، نرى في حياتنا علاقات كانت شديدة القُرب، ثم ما لبثت أن تحولّت إلى ما يُشبه العداء، فجأة بلا سابق إنذار. في مثل هذه الحالات غالباً ما نُلقي باللوم على من قام بقطع العلاقة، مُتّهمين إيّاه بالجفاء والقسوة. لكن الحقيقة تقول إنَّ الاثنَين منذ البداية وقعا دون أن يدرِياَ في خطأ إقامة علاقة لا حدود صحّية لها، لذا أصبح عليهما بدرجات متفاوتة تحمُّل النّتائج والتّألُّم والتّأقلُم والتّعلُّم. ليست الحدود في العلاقة حدوداً بين الأشخاص فقط، بل علينا بناء حدود مع الهيئات والأشغال والخدمات التي ندخل فيها. فبعض من النّاس - بسبب حبّهم الشّديد للعمل- قرّروا قراراً واعياً أو غير واعٍ بالذَّوَبان في عملهم أو خدمتهم. غالباً ما يحدث هذا مع الأشخاص الجائعين للحُبّ وللشّعور بالأهميّة. قد يرتبط الطّفل الصّغير السّاكن داخلنا بشخص ما، ارتباطاً مَرَضياً لا حدود له، أو قد يرتبط ارتباطاً غير محدود بفكرة أو عمل أو قضيّة ما، فتتحوّل هذه الأمور لتصبح مصادر ومراكز الأمان في حياتنا وسرعان ما تتحوّل إلى "آلهة صغيرة" تتنافس مع الله. كما هو واضح في سِفر الخروج 34: 14 . لذلك، علينا وضع حدود بيننا وبين أيّ شيء نفعله. ليس معنى هذا أن نكون غير مُخلِصين لِما نفعل، أو أن نعمل بأيدي مُرتخية أو قلب غير مُلتهب، بل كما نتعلّم من سِفر الأمثال 10: 4 . في الوقت نفسه، يجب ألّا يكون ولاؤنا إلاّ لله وحده. وهذا لكي نكون خاضعين في يده، يحرِّكنا إلى حيث يشاء ويقود حياتنا من مرحلة إلى مرحلة، بمرونة وسلاسة.
إذا كان لديك عزيزي القارىء أيّة مشكلة تحبّ أن تشاركنا بها، وتحبّ أن نصلّي لأجلك .. اتّصل بنا