يقولون عن أفضل وأروع طريق إنّه "الطّريق المُستقيم"، لأنّه أقصر الطُّرُق للوصول للأهداف المرجُوّة. ويقولون عن الإنسان الحقّ والذي يتصرّف بلياقة ونقاوة إنّه "رجُلٌ مُستقيمٌ"
فهل تُراك فكّرت عزيزي القارئ في معنى ومغزى كلمة استقامة؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحيا الحياة المُستقيمة؟!
- ما هي الاستقامة؟
إن الاستقامة ـ في تعريف بسيط ـ هي السّلوك والتّصرّف بطريقة سليمة ونقيّة وصحيحة، بضمير صالحٍ غير مُلوثٍ أو مُعوّجٍ، وبقلبٍ ثابتٍ بلا لوم أمام الله، وقُدّام النّفس والنّاس. وهي بذلك أيضاً الرّغبةُ المُخلصة والصّادقة والأمينة في أن يكون الدّاخل مثل الخارج، أي ألّا يُظهر الإنسان خلاف ما في باطنه، وأن يكون صريحاً وواضحاً في كُلّ المجالات وفي كلّ الظّروف والأحوال، مهما كلّفه الأمر من ثمن.
- لماذا تُعتبر الاستقامة للإنسان أمراً مُهمّاً؟ وما هي الفوائد التي تعود على الفرد نفسه، إن هو عاش وسلك باستقامة أمام الله والنّاس؟
يظنّ البعض أنّ هدف الاستقامة الأساسي يعود على الآخرين والمجتمع الذي يعيش فيه الفرد. ومع أنّ هذا يُعدُّّ بالطّبع أمراً لا يُمكن إنكاره، إلّا أنّ الحقيقة هي أنّ استقامة الإنسان تعود أساساً وبالدّرجة الأولى على الإنسان نفسه. فالشّخص المستقيم هو أوّل من يتمتّع بهذه الطّهارة والاستقامة في حياته، إذ يجني أوّلاً ـ قبل سواه من البشر ـ ثمارها الرّائعة. فأيّ إنسان يعيش الحياة المُستقيمة الواضحة، سيعرف كيف يكون مُتصالحاً مع نفسه ومع إلهه، وستكون خطواته ثابتة وواثقة. وهذا هو ما يسمّيه الكتاب المقدّس: السّلوك في النّور، أي السّلوك بشفافيّة وبلا لوم وفي اتّزان وتوافق من الدّاخل ومن الخارج أيضاً.
- وما هي الخسائر التي يجنيها إن هو عاش باعوجاج وعدم أمانة أمام الله؟
فكما أنّ مكاسب الاستقامة تعود ببركاتها على الشّخص السّالك بالاستقامة أوّلاً، كذلك مساوئ عدم الاستقامة. فالشّخص الغير أمين يحصد هو أوّلاً وبطريقة مُباشرة مرارةً وعَلقماً. فالإنسان الذي يسلك طُرُقاً معوجّةً إنّما هو يكتوي بنارها، ويدفع ثمناً غالياً ربّما من صحّته أو علاقاته أو مستقبله أو ..... تبعاً لمستوى انحداره نحو الأسفل. فبالمنطق نفسه إنّ ما يزرعه الإنسان لا بدّ أن يحصد ثمره سواء كان انتفاعاً أو مُعاناةً. يقول سليمان الحكيم في سِفر الأمثال 6: 27 - 28 . فيا ليتنا نتعلّم أنّ الاستقامة هي المفتاح الأساسي المضمون والأكيد لسعادة الإنسان في الحياة، ولضمان نجاحه وسلامته.
- ما هي المجالات التي يمكن للإنسان أن يكون مُستقيماً فيها؟
تُمثّل مجالات حياة الإنسان المختلفة فرصاً له كي يحيا مُستقيماً، فهو يحتاج أن يكون أميناً ومُستقيماً في حياته الشّخصيّة الدّاخليّة، فيتجنّب المعاصي والأمور التي نهانا الله بوصاياه وفرائضه أن نعملها. فالفرد عليه أن يكون أميناً على المال والصّحّة والوقت والأبناء والجيران والمُمتلكات العامّة والخاصّة، وعلى حياته نفسها التي هي بحدّ ذاتها وديعة من الله لنا، مُدركاً أنّ أيّ أمر من هذه الأمور إنّما هو ملك لله في الأساس. فالله هو العاطي وما نحن إلّا مُجرّد وكلاء على هذه الأمور التي أوكلنا الرّبّ عليها. وسيأتي وقت يستردّ صاحب المُلك ملكه، ولا بدّ لنا أن نكون مُستعدّين لهذا اليوم الذي فيه سنقف بين يديّ الله لنُعطي حساباً. وأشهر المجالات التي يُجرّب فيها الإنسان (والتي يصبح الكثير من البشر ضحاياها) هي: الشّهوة الجنسيّة، محبّة المال والرّغبة العارمة في الغنى واكتناز الثّروات، والفساد عن طريق سوء استخدام السّلطة والنّفوذ.
- ما هي الفوائد التي تعود على المجتمع وعلى الأفراد المُحيطين بالشّخص الأمين، من جرّاء أمانته واستقامته؟
تخيّل معي، عزيزي القارئ، لو كُنّا كُلُّنا، أنا وأنت وأصدقاؤنا ومعارفنا وأقرباؤنا وأحبّاؤنا ... الخ، نحيا حياة الاستقامة أو على الأقلّ نسعى لها ونُشجّع بعضنا بعضاً على بلوغها والسّعي نحوها بكلّ مثابرة واجتهاد، تُرى كيف يمكن أن يؤثّر ذلك على علاقاتنا وعلى نجاح مجتمعنا وعلى تقدّمه وازدهاره، كأفراد وكجماعة؟ أعتقد أنّ الإجابة واضحة ومعروفة، فإنْ كان للاستقامة انعكاسها الإيجابي على حياة الفرد، فهي لا بدّ أيضاً سيكون لها المردود الإيجابي على حياة المجتمع كلّه. وكُلُّنا نعلم جيّداً أنّ المجتمعات التي تمتلئ بالفساد الإداري أو بالرّشوة والمحسوبيّة والانحراف، إنّما يدفع أفرادها ثمناً غالياً من خلال ثروات ضائعة ومنهوبة وانعدام للعدالة والمساواة والظّلم والمُحاباة، .... الخ، ممّا يؤدّي لتأخّرها بل ولانهيارها، والعكس بالعكس أيضاً.
- أين يقف الله من أمر استقامتي؟
يبحث الله عن الأمناء في الأرض ليكافئهم، نعم، إنّ الله بالطّبع يكافئ الإنسان على أمانته واستقامته، وقد يبدو أحياناً أنّ الرّجُل الخيّر المُلتزم بوصايا الله تأتي عليه الظّروف والأحوال بالصّعوبات. وقد يحدث هذا فعلاً في مرّات كثيرة (وعندنا في الكتب المقدّسة قصصٌ كثيرةٌ كقصّتَي الصّدِّيق يوسف وأيّوب النّبيّ المُجرَّب الصّابر، اللتان تُقدّمان لنا مثلاً ونموذجاً للاستقامة)، إلّا أنّ الحقيقة هي أنّ الله ينظر ويرى، وهو عادل والحقّ اسمه، ولن ينسى الأمناء أبداً، لكنّه يملأ حياتهم بالبركات والخيرات، وهو يكافئ آخرتهم أيضاً نظير أمانتهم وتقواهم.
- كيف يمكن للإنسان أن يحيا مُستقيماً؟
1. يحتاج الإنسان أوّلاً أن يعرف الله المعرفة الحقّة. فمن الحقائق التي لا يمكننا إنكارها، أنّ الإنسان بمفرده وبقوّته الذّاتيّة دون نعمة الله وعونه، لن يكون بمقدوره مهما عمل أن يُقلع عن خطيّة أو عادة سيّئة ما موجودة ومُتأصّلة بحياته. لذلك فإنّ الخطوة الأولى والمُهمّة في طريق الإنسان لبلوغ الاستقامة هي أن يعرف الله ويُسلّم له الإرادة ويطلب منه تعالى العون ليهزم الخطايا والضّعفات المُتأصّلة فيه. فكلّ الذين حاولوا، مراراً كثيرةً، أن ينتصروا على الخطايا التي تغلبهم، وأن يتحرّروا من عبوديّتها وسُلطانها عليهم بقُدراتهم الذّاتيّة لم يستطيعوا، ففشلوا ويئسوا. لكن ما إن توجّهوا لله طالبين العون وعاقدين العزم على المُضيّ قُدماً في طريق النُصرة والغلبة، بمساعدة قوّة الله ومُؤازرته لهم، إلّا ووجدوا الخلاص والتّحرير.
2. صمّم عزيزي القارئ أن تتخلّص من ضعفاتك ونقائصك وأخطائك. واعلم أنّك بعد أن وضعت اتّكالك على الله ومعونته، سيكون بمقدورك التّغلّب على ما كان من المستحيل التّغلُّب عليه في السّابق. وامتلئ بالثّقة والرّجاء والتّشجيع فالنّصرة قريبةٌ منك والقوّة في مُتناول يديك، والطّريق صار الآن مفتوحاً أمامك للحريّة والغلبة.
3. وحتّى تُساعد نفسك لتحقيق الانتصار، أنت تحتاج عزيزي لأن تقطع كلّ صلة لك بالخطيّة وأن تُغلق كلّ منابع الشّرّ. فإن كان حولك – مثلاً - مجموعة من أصدقاء السّوء الذين يسلكون في طرق ملتوية ومعوجّة، فإنّه سيكون لزاماً عليك أن تقطع صلتك بهم، وألّا تنزلق معهم في طُرُق تؤذيك وتُسبّب لك المتاعب (طبعاً هذا إن رغبت وكُنت مُخلصاً حقّاً في أن تعيش حياة الاستقامة الحقّة!). وبالطّريقة نفسها أُشجّعك أن تقطع كلّ صلة لديك بأيّة وسيلة أو مادّة إعلاميّة مطبوعة أو مرئيّة (كالقنوات الخليعة مثلاً)، التي تعرف أنّها تؤذيك وتضُرُّك وتُنجّسُك وتُفقدك طُهرك ونقاوتك. اقطعها قبل أن تقطعك هي! واغلق بحسم هذا المورد الفاسد الذي يؤذيك ويُسبّب لك الضّرر الشّديد.
4. ثق تماماً أنّك تتبع الخالق الذي صنعك، فهو يعرف احتياجاتك وهو ملتزم بأن يسدّد هذه الاحتياجات بطُرُقه التي لا نتوقّعها، فقط ثق فيه واطلب منه، فهو يشتاق أن يسمع منك! وأنصحك أن تطلب الغفران باستمرار من الله فهو قادر أن يساعدك على التّخلُّص من العادات الرّديئة التي كنت تتبعها في الماضي للحصول على ما تريده بالطُّرُق غير المشروعة.
صديقي العزيز، بقي أن تسأل نفسك هذا السّؤال الشخصيّ الهامّ، هل تُراك حقّاً ترغب أن تحيا الحياة المُستقيمة؟ وهل أنت تسعى وتجتهد بكلّ قوّة لديك لإدراك هذه الحياة؟ وهل أنت مُستعدّ لأن تدفع الثّمن لتُدرك هذه الحياة؟ عزيزي، أشجّعك بأن تسعى لتحيا وتستمتع بالحياة الطّاهرة النّقيّة، فتتمتّع معها أيضاً بالفرح والسّلام والطُّهر والنّقاوة، فهذه هي المفاتيح الرّائعة للحياة الفُضلى.أرحّب بك دوماً لتشاركني بأفكارك وآرائك في كلّ ما قرأته في هذا المقال، فأهلاً ومرحباً بمُداخلاتك وتعليقاتك، والرّبّ معك.
إذا كان لديك عزيزي القارىء أيّة مشكلة تحبّ أن تشاركنا بها، وتحبّ أن نصلّي لأجلك .. اتّصل بنا